فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله}.
والمعنى وإذ قد استبان لكم حال من كفر بأنعم الله تعالى وكذب رسوله وما حل بهم بسبب ذلك من اللتيا والتي أولًا وآخرًا فانتهوا عما أنتم عليه من كفران النعم وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم كيلا يحل بكم ما حل بهم واعرفوا حق نعم الله تعالى وأطيعوا الرسول عليه الصلاة والسلام في أمره ونهيه فكلوا من رزق الله تعالى حال كونه {حلالا طَيّبًا} وذروا ما تفترون من تحريم البحائر ونحوها {واشكروا نِعْمَتَ الله} واعرفوا حقها ولا تقابلوها بالكفران.
والفاء في المعنى داخلة على الأمر بالشكر وإنما دخلت على الأمر بالأكل ذريعة إلى الشكر فكأنه قيل: فاشكروا نعمة الله غب أكلها حلالًا طيبًا وقد أدمج فيه النهي عن زعم الحرمة ولا ريب في أن هذا يتصور حين كان العذاب المستأصل متوقعًا بعد وققد تمهدت مبادية وأما بعدما وقع فمن ذا الذي يحذر ومن ذا الذي يحذر ومن ذا الذي يؤمر بالأكل والشكر وحمل قوله تعالى: {فَأَخَذَهُمُ العذاب وَهُمْ ظالمون} [النحل: 113]. لاستصلاحهم بالأمر والنهي وإن لم يأباه التعبير بالماضي لأن استعماله في المستقبل المتحقق الوقوع مجازًا كثير.
وتوجيه خطاب الأمر بالأكل إلى المؤمنين مع أن ما يتلوه من خطاب النهي متوجه إلى الكفار كما فعل الواحدي قال: فكلوا أنتم يا معشر المؤمنين مما رزقكم الله تعالى من الغنائم مما لا يليق بشأن التنزيل اهـ.
وتعقب بأنه بعد ما فسر العذاب بالعذاب المستأصل للشأفة كيف يراد به ما وقع في بدر وما بقي منهم أضعاف ما ذهب وإن كان مثل ذلك كافيًا في الاستئصال فليكن المحذر والمأمور الباقي منهم، وما ذكره عن الواحدي من توجيه خطاب الأمر بالأكل للمؤمنين رواه الإمام عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ثم نقل عن الكلبي ما يستدعي أن الخطاب لأهل مكة حيث قال: إن رؤساء مكة كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جهدوا وقالوا: عاديت الرجال فما بال الصبيان والنساء وكانت الميرة قد قطعت عنهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذن في الحمل إليهم فحمل الطعام إليهم فقال الله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} إلخ. ثم قال: والقول ما قال ابن عباس يدل عليه قوله تعالى فيما بعد: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة} [النحل: 115]. إلخ. يعني إنكم لما آمنتم وتركتم الكفر فكلوا الحلال الطيب وهو الغنيمة وارتكوا الخبائث وهو الميتة والدم. اهـ.
وفي التفسير الخازني أن كون الخطاب للمؤمنين من أهل المدينة هو الصحيح فإن الصحيح أن الآية مدنية كما قال مقاتل وبعض المفسرين، والمراد بالقرية مكة وقد ضربها الله تعالى لأهل المدينة يخوفهم ويحذرهم أن يصنعوا مثل صنيعهم فيصيبهم ما أصابهم من الجوع والخوف ويشهد لصحة ذلك أن الخوف المذكور في الآية كان من البعوث والسرايا التي كانت يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول جميع المفسرين لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يؤمر بالقتال وهو بمكة وإنما أمر به وهو بالمدينة فكان صلى الله عليه وسلم يبعث البعوث إلى مكة يخوفهم بذلك وهو بالمدينة، والمراد بالعذاب ما أصابهم من الجوع والخوف وهو أولى من أن يراد به القتل يوم بدر، والظاهر أن قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءهُمْ} [النحل: 113]. إلخ. عنده كما هو عند الجمهور انتقال من التمثيل بهم إلى التصريح بحالهم الداخلة فيه وليس من تتمته فإنه على ما قيل خلاف المتبادر إلى الفهم.
نعم كون خطاب النهي فيما بعد للمؤمنين بعيد غاية البعد، وجعله للكفار مع جعل خطاب الأمر السابق للمؤمنين بعيد أيضًا لكن دون ذلك.
وادعى أبو حيان أن الظاهر أن خطاب النهي كخطاب الأمر للمكلفين كلهم، ونقل كون خطاب للنهي لهم عن العسكري، وكونه للكفار عن الزمخشري وابن عطية والجمهور، ولعل الأولى ما ذكره شيخ الإسلام إلا أن تقييد العذاب بالمستأصل ودعوى أن حال أهل مكة كحال أهل تلك القرية حذو القذة بالقذة من غير تفاوت بينهما ولو في خصلة فذة لا يخلو عن شيء من حيث أن أهل مكة لم يستأصلوا فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} تطيعون أو إن صح زعمكم أنكم تقصدون بعبادة الآلهة عبادته سبحانه ومن قال؛ إن الخطاب للمؤمنين أبقى هذا على ظاهره أي إن كنتم تخصونه تعالى بالعبادة، والكلام خارج مخرج التهييج.
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}.
تعليل لحل ما أمرهم بأكله مما رزقهم، والحصل إضافي على ما قال غير واحد أي إنما حرم أكل هذه الأشياء دون ما تزعمون من البحائر والسوائب ونحوها فلا ينافي تحريم غير المذكورات كالسباع والحمر الأهلية، وقيل: الحصر على ظاهره والسباع ونحوها لم تحرم قبل وإنما حرمت بعد وليس الحصر إلا بالنظر إلى الماضي، وقال الإمام: إنه تعالى حصر المحرمات في الأربع في هذه السورة وفي سورة الأنعام بقوله سبحانه: {قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام: 145]. إلخ، وهما مكيتان وحصرها فيها أيضًا في البقرة وكذا في المائدة فإنه تعالى قال فيها: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1]. فأباح الكل إلا ما يتلى عليهم، وأجمعوا على أن المراد بما يتلى هو قوله تعالى في تلك السورة: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} [المائدة: 3]، وما ذكره تعالى من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع داخل في الميتة وما ذبح على النصب داخل فيما أهل به لغيره الله، فثبت أن هذه السور الأربع دالة على حصر المحرمات في هذه الأربع، وسورتا النحل والأنعام مكيتان وسورتا البقرة والمائدة مدنيتان، والمائدة من آخر ما نزل بالمدينة فمن أنكر حصر التحريم في الأربع إلا ما خصه الإجماع والدلائل القاطعة كان في محل أن يخشى عليه لأن هذه السور دلت على أن حصر المحرمات فيها كان مشروعًا ثابتًا في أول أمر مكة وآخرها وأول المدينة وآخرها، وفي إعادة البيان قطع للأعذار وإزالة للشبه اه فتفطن ولا تغفل {فَمَنِ اضطر} أي دعته ضرورة المخمصة إلى تناول شيء من ذلك {غَيْرَ بَاغٍ} على مضطر آخر {وَلاَ عَادٍ} متعد قدر الضرورة وسد الرمق {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي لا يؤاخذه سبحانه بذلك فأقيم سببه مقامه، ولتعظيم أمر المغفرة والرحمة جيء بالاسم الجليل، وقد سها شيخ الإسلام فظن أن الآية {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: 145]. فبين سر التعرض لوصف الربوبية والإضافة إلى ضمير صلى الله عليه وسلم وسبحان من لا يسهو.
واستدل بالآية على أن الكافر مكلف بالفروع. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)} تفريع على الموعظة وضرببِ المثل، وخوطب به فريق من المسلمين كما دلّ عليه قوله: {إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة} [سورة النحل: 114، 115]. إلى آخره.
ولعلّ هذا موجّه إلى أهل هجرة الحبشة إذ أصبحوا آمنين عند ملك عادل في بلد يَجدون فيه رزقًا حلالًا وهو ما يُضافون به وما يكتسبونه بكدّهم، أيْ إذا علمتم حال القرية الممثّل بها أو المعرّض بها فاشكروا الله الذي نجّاكم من مثل ما أصاب القرية، فاشكروا الله ولا تكفروه كما كفر بنعمته أهل تلك القرية.
فقوله: {واشكروا نعمت الله} مقابل قوله في المثل: {فكفرت بأنعم الله} [سورة النحل: 112]. إن كنتم لا تعبدون غيره كما هو مقتضى الإيمان.
وتعليق ذلك بالشرط للبعث على الامتثال لإظهار صدق إيمانهم.
وإظهار اسم الجلالة في قوله: {واشكروا نعمت الله} مع أن مقتضى الظاهر الإضمار لزيادة التذكير، ولتكون جملة هذا الأمر مستقلّة بدلالتها بحيث تصحّ أن تجري مجرى المثل.
وقيل: هذه الآية نزلت بالمدينة {والمعنى واحد} وهو قول بعيد.
والأمر في قوله: {فكلوا} للامتنان.
وإدخال حرف التفريع عليه باعتبار أن الأمر بالأكل مقدمة للأمر بالشكر وهو المقصود بالتّفريع.
والمقصود: فاشكروا نعمة الله ولا تكفروها فيحلّ بكم ما حلّ بأهل القرية المضروبة مثلًا.
والحلال: المأذون فيه شرعًا.
والطيّب: ما يطيب للناس طعمه وينفعهم قُوتهُ.
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}.
هذه الجملة بيان لمضمون جملة {فكلوا مما رزقكم الله حلالًا طيبًا} [سورة النحل: 114]. لتمييز الطيّب من الخبيث، فإن المذكورات في المحرّمات هي خبائث خُبثًا فطريًا لأن بعضها مفسد لتولد الغذاء لما يشتمل عليه من المضرّة.
وتلك هي الميتة، والدم، ولحم الخنزير؛ وبعضها مناففٍ للفطرة وهو ما أهلّ به لغير الله لأنه مناففٍ لشكر المنعم بها، فالله خلق الأنعام، والمشركون يذكرون اسم غير الله عليها.
ولإفادة بيان الحلال الطيّب بهذه الجملة جيء فيها بأداة الحصر، أي ما حرّم عليكم إلا الأربعَ المذكورات، فبقي ما عداها طيّبًا.
وهذا بالنظر إلى الطيِب والخُبث بالذات.
وقد يعرض الخبث لبعض المطعومات عرضًا.
ومناسبة هذا التحديد في المحرّمات أن بعض المسلمين كانوا بأرض غُربة وقد يؤكل فيها لحم الخنزير وما أهلّ به لغير الله، وكان بعضهم ببلد يؤكل فيه الدم وما أهلّ به لغير الله.
وقد مضى تفسير نظير هذه الآية في سورة البقرة والأنعام. اهـ.

.قال الشعراوي:

{فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)}.
قُلْنا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما اشتد الحال بأهل مكة حتى أكلوا الجيف، كان يرسل إليهم ما يأكلونه من الحلال الطيب رحمة منه صلى الله عليه وسلم بهم فيقول: {فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} [النحل: 114].
أي: أن هذا الرزق ليس من عندي، بل من عند الله.
{حَلالًا طَيِّبًا} [النحل: 114].
ذلك لأنهم كانوا قبل ذلك لا يتورَّعون عن أكل ما حرم الله، ولا عن أكل الخبيث، فأراد أن يُنبِّههم أن رِزْق الله لهم من الحلال الطيب الهنيئء، فيبدلهم الحلال بدل الحرام، والطيب بدل الخبيث.
وقوله تعالى: {واشكروا نِعْمَتَ الله} [النحل: 114].
وهنا إشارة تحذير لهم أنْ يقعوا فيما وقعوا فيه من قَبْل من جُحود النعمة ونكْرانها والكفر بها، فقد جَرَّبوا عاقبة ذلك، فنزع الله منهم الأمْنَ، وألبسهم لباسَ الخوف، ونزع منهم الشَّبَع ورَغَد العيش، وألبسهم لباس الجوع، فخذوا إذن عبرة مما سلف: {إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [النحل: 114].
ثم يقول الحق سبحانه: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ}.
الحق سبحانه وتعالى بعد أنْ قال: {فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلالًا طَيِّبًا} [النحل: 114].
أراد أن يُكرِّر معنًى من المعاني سبق ذكره في البقرة والمائدة، فقال في البقرة: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 173].
وقال تعالى في سورة المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} [المائدة: 3].
وهذه الأشياء كنتم تأكلونها وهي مُحرّمة عليكم، والآن ما دُمْنَا ننقذكم، ونجعل لكم معونة إيمانية من رسول الله، فكلوا هذه الأشياء حلالًا طيبًا.
ولكن، لماذا كرَّر هذا المعنى هنا؟
التكرار هنا لأمرين:
الأول: أنه سبحانه لا يريد أنْ يعطيهم صورة عامة بالحكم، بل صورة مُشخَّصة بالحالة؛ لأنهم كانوا جَوْعى يريدون ما يأكلونه، حتى وإنْ كانت الجيف، ولكن الإسلام يُحرِّم الميتة، فأوضح لهم أنكم بعد ذلك ستأكلون الحلال الطيب.
ثانيًا: أن النص يختلف، ففي البقرة: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} [البقرة: 173].
وهنا: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} [النحل: 115].
وليس هنا من قبيل التفنُّن في الأسلوب، بل المعنى مختلف تمامًا؛ ذلك لأن الإهلال هو رَفْع الصوت عند الذبح، فكانوا يرفعون أصواتهم عند الذبح، ولكن والعياذ بالله يقولون: باسم اللات، أو باسم العُزّى، فيُهلون بأسماء الشركاء الباطلين، ولا يذكرون اسم الله الوهاب.
فمرَّة يُهلُّون به لغير الله، ومرة يُهِلُّون لغير الله به. كيف ذلك؟
قالوا: لأن الذبْح كان على نوعين: مرة يذبحون للتقرُّب للأصنام، فيكون الأصل في الذبح أنه أُهِلَّ لغير الله به. أي: للأصنام.
ومرَّة يذبحون ليأكلوا دون تقرُّب لأحد، فالأصل فيه أنه أُهِلَّ به لغير الله.
إذن: تكرار الآية لحكمة، وسبحان مَنْ هذا كلامه.
وقوله: {فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} [النحل: 115].
الاضطرار: أَلاَّ تجد ما تأكله، ولا ما يقيم حياتك.
والحق سبحانه وتعالى يعطينا هنا رخصة عندما تُلجِئنا الضرورة أن نأكل من هذه الأشياء المحرَّمة بقدر ما يحفظ الحياة ويسُدُّ الجوع، فمَعنى {غَيْر بَاغٍ} غير مُتجاوزٍ للحدِّ، فلو اضطررْتَ وعندك مَيْتة وعندك طعام حلال، فلا يصحّ أن تأكل الميتة في وجود الحلال.
{وَلاَ عَادٍ} [النحل: 115].
أي: ولا مُعْتَدٍ على القدر المرخَّص به، وهو ما يمسك الحياة ويسُدُّ جوعك فقط، دون شِبَع منها.
ويقول تعالى: {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 115].
وفي البقرة: {فلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173].
فالمعنى واحد، ولكن هنا ذكر المغفرة والرحمة، وهناك ذكر سببهما.
وتجد الإشارة هنا إلى ما يتشدَّق به البعض من الملاحدة الذين يبحثون في القرآن عن مَغْمز، فيقولون: طالما أن الله حرَّم هذه الأشياء، فما فائدتها في الكون؟
نقول: أتظنون أن كل موجود في الكون وُجِد ليُؤكل، أليس له مهمة أخرى؟ ومن ورائه مصلحة أخرى غير الأَكْل، فإنْ حرَّم الإسلام أكْله فقد أباح الانتفاع به من وجه آخر.
فالخنزير مثلًا حَرَّم الله أكْله، ولكن خَلقه لمهمة أخرى، وجعل له دَوْرًا في نظافة البيئة، حيث يلتهم القاذورات، فهو بذلك يُؤدِّي مهمة في الحياة.
وكذلك الثعابين لا نأكلها، ولها مهمة في الحياة أيضًا، وهي أنْ تُجهِّز لنا السُّم في جوفها، وبهذا السم تعالج بعض الداءات والأمراض، وغير ذلك من الأمثلة كثير.
وكذلك يجب أنْ نعلمَ أن الحق سبحانه ما حرَّم علينا هذه الأشياء إلا لحكمة، وعلى الإنسان أن يأخذ من واقع تكوينه المادي وتجاربه ما يُقرِّب له المعاني القيمية الدينية، فلو نظر إلى الآلات التي تُدار من حوله من ماكينات وسيارات وطائرات وخلافه لوجد لكل منها وقودًا، ربما لا يناسب غيرها، حتى في النوع الواحد نرى أن وقود السيارات وهو البنزين مثلًا لا يناسب الطائرات التي تستخدم نفس الوقود، ولكن بدرجة نقاء أعلى.
إذن: لكل شيء وقود مناسب، وكذلك أنت أيها الإنسان لك وقودك المناسب لك، وبه تستطيع أداء حركتك في الحياة، وأنت صَنْعة ربك سبحانه، وهو الذي يُحدِّد لك ما تأكله وما لا تأكله، ويعلم ما يُصلحك وما يضرُّك.
والشيء المحرَّم قد يكون مُحرَّمًا في ذاته كالميتة لما فيها من ضرر، وقد يكون حلالًا في ذاته، ولكنه مُحرَّم بالنسبة لشخص معين، كأن يُمنَع المريض من تناول طعام ما؛ لأنه يضرُّ بصحته أو يُؤخِّر شفاءه، وهو تحريم طاريء لحين زوال سببه.
وصورة أخرى للتحريم، وهي أن يكون الشيء حلالًا في ذاته ولا ضررَ في تناوله، ومع ذلك تحرمه عقوبةً، كما تفعل في معاقبة الطفل إذا أساء فنحرمه من قطعة الحلوى مثلًا.
إذن: للتحريم أسباب كثيرة، سوف نرى أمثلة منها قريبًا. اهـ.

.التفسير المأُثور:

قال السيوطي:
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر، عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {إنما حرم عليكم الميتة} قال: إن الإسلام دين مطهر، طهره الله من كل سوء وجعل لك فيه يا ابن آدم سعة إذا اضطررت إلى شيء من ذلك. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)}.
قوله تعالى: {واشكروا نِعْمَةَ الله} صَرَّح هنا بالنعمة لتقدُّمِ ذِكْرها مع مَنْ كفر بها، ولم يَجِئْ ذلك في البقرة، بل قال: {واشكروا للَّهِ} [البقرة: 172]. لمَّا لم يتقدمْ ذلك، وتقدَّم نظائرُها هنا. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)}.
الحلالُ الطيبُ ما يتناوله العبدُ على شريطة الإذن بشاهد الذكر على قضية الأدب في ترك الشبهة، وحقيقةُ الشكر على النعمةِ الغيبةُ عن شهودِ النعمة بالاستغراق في شهود المنعِم.
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}.
يُبَاحُ تناولُ المحرماتِ عند هجوم الضرورات حسب بيان الشرع، ولا يُرَخَّصُ في ذلك إلا على أوصاف مخصوصة، وبِقَدْرِ ما يَسُدُّ الرَّمق، كذلك عند استهلاكِ العبدِ بغلبات الحقيقة لابد من رجوعه إلى حال الصحو بقدر ما يؤدى الفرض الواجب عليه، صم لا يُمكّن من التعريج في أَوْطان التفرقة والتمييز بعد مضي أوقات الصحو من أجل أداء الشرع، كما قيل:
فإنْ تَكُ منه غيبة بعد غيبةٍ ** فإنَّ إليه بالوجود إيابي

اهـ.